جوده وكرمه (عليه السّلام)
وبنفس كبيرة كان الإمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) يعين الفقراء والمحتاجين، ويحنو على الأرامل والأيتام، ويثلج قلوب الوافدين عليه، ويقضي حوائج السّائلين من دون أن يجعلهم يشعرون بذلّ المسألة، ويصل رحمه دون انقطاع، ولم يصله مال إلاّ فرّقه وأنفقه، وهذه سجيّة الجواد وشنشنة الكريم وسمة ذي السّماحة.
فكان يحمل في دجى الليل البهيم جراباً مملوءاً طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى حتّى شهد له بهذا الكرم معاوية بن أبي سفيان، وذلك حين بعث لعدّة شخصيات بهدايا، فقال متنبّئاً: أمّا الحسين فيبدأ بأيتام مَنْ قُتل مع أبيه بصفّين، فإن بقي شيء نحر به الجزور وسقى به اللبن
4.
وفي موقف مفعم باللّطف والإنسانيّة والحنان جعل العتق ردّاً للتحية، فقد روى عن أنس أنّه قال: كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيّته بها، فقال لها: "أنتِ حرّة لوجه الله تعالى".
وانبهر أنس وقال: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! فقال (عليه السّلام): "كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى:﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ... ﴾
5، وكان أحسن منها عتقها"
6.
ومن كرمه وعفوه أنّه وقف (عليه السّلام) ليقضي دين اُسامة بن زيد، وليفرّج عن همّه الذي كان قد اعتراه وهو في مرضه
7، رغم أنّ اُسامة كان قد وقف في الصفّ المناوئ لأبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام).
ووقف ذات مرّة سائل على باب الحسين (عليه السّلام) وأنشد قائلاً:
لم يخب الآن مَنْ رجاك ومَن *** حرّك من دون بابك الحلقهْ
أنت جوادٌ وأنت معتمدٌ *** أبوك قد كان قاتل الفسقهْ
فأسرع إليه الإمام الحسين (عليه السّلام) وما أن وجد أثر الفاقة عليه حتّى نادى بقنبر، وقال متسائلاً: "ما تبقّى من نفقتنا؟".
قال: مئتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك.
فقال (عليه السّلام): "هاتها فقد أتى مَنْ هو أحقّ بها منهم".
فأخذها ودفعها إلى السائل معتذراً منه، وأنشد قائلاً:
"خذها فإنّي إليك معتذرٌ *** واعلم بأنّي عليك ذو شفقهْ
لو كان في سيرنا الغداة عصاً *** أمست سمانا عليك مندفقهْ
لكنّ ريب الزمان ذو غِيرٍ *** والكفّ منّي قليلة النفقهْ"
فأخذها الأعرابي شاكراً وهو يدعو له (عليه السّلام) بالخير، وأنشد مادحاً:
مطهّرون نقيّات جيوبهمُ *** تجري الصلاةُ عليهم أينما ذكروا
وأنتمُ أنتمُ الأعلون عندكمُ *** علمُ الكتاب وما جاءت به السورُ
مَنْ لم يكن علويّاً حين تنسبُه *** فما له في جميع النّاس مفتخرُ
8