( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبإ : 6]
ثم شرع وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة ، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره ، فقال :
( ألم نجعل الأرض مهادا ) ؟
أي : ممهدة للخلائق ذلولا لهم ، قارة ساكنة ثابتة.
( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [النبإ : 7]
( والجبال أوتادا )
أي : جعلها لها أوتادا أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها .
( وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) [النبإ : 8]
ثم قال : ( وخلقناكم أزواجا )
يعني : ذكرا وأنثى ، يستمتع كل منهما بالآخر ، ويحصل التناسل بذلك ، كقوله :
( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) [ الروم : 21 ] .
( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) [النبإ : 9]
وقوله : ( وجعلنا نومكم سباتا )
أي : قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار .
وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة " الفرقان " .
( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) [النبإ : 10]
( وجعلنا الليل لباسا )
أي : يغشى الناس ظلامه وسواده ، كما قال :
( والليل إذا يغشاها ) [ الشمس : 4 ]
وقال الشاعر :
فلما لبسن الليل ، أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح
وقال قتادة في قوله : ( وجعلنا الليل لباسا )
أي : سكنا .
( وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) [النبإ : 11]
أي جعلناه مشرقا نيرا مضيئا ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك.
( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبإ : 12]
يعني السموات السبع في اتساعها وارتفعاها وإحكامها وإتقانها وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات.
( وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) [النبإ : 13]
يعني الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوءها لأهل الأرض كلهم.
( وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا) [النبإ : 14]
قال العوفي ، عن ابن عباس :
( المعصرات ) الريح .
وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد ، حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس :
( وأنزلنا من المعصرات )
قال : الرياح .
وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن :
إنها الرياح .
ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :
( من المعصرات ) أي : من السحاب .
وكذا قال عكرمة أيضا ، وأبو العالية ، والضحاك ، والحسن ، والربيع بن أنس ، والثوري . واختاره ابن جرير .
وقال الفراء : هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولم تمطر بعد ، كما يقال امرأة معصر ، إذا دنا حيضها ولم تحض .
وعن الحسن ، وقتادة :
( من المعصرات ) يعني : السماوات . وهذا قول غريب .
والأظهر أن المراد بالمعصرات : السحاب ، كما قال [ الله ] تعالى :
( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ) [ الروم : 48 ] أي : من بينه .
وقوله : ( ماء ثجاجا ) قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس :
( ثجاجا ) منصبا .
وقال الثوري : متتابعا .
وقال ابن زيد : كثيرا .
قال ابن جرير :
ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج ، وإنما الثج : الصب المتتابع . ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" أفضل الحج العج والثج " . يعني صب دماء البدن . هكذا قال .
قلت : وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنعت لك الكرسف " - يعني : أن تحتشي بالقطن - : قالت : يا رسول الله ، هو أكثر من ذلك ، إنما أثج ثجا .
وهذا فيه دلالة على استعمال الثج في الصب المتتابع الكثير ، والله أعلم .
( وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ( [النبإ : 16]
( وجنات ) أي : بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة ، وألوان مختلفة ، وطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذهلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعا ; ولهذا قال :
( وجنات ألفافا ) قال ابن عباس ، وغيره :
( ألفافا ) مجتمعة .
وهذه كقوله تعالى :
( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) الآية [ الرعد : 4 ] .
( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبإ : 17]
يقول تعالى مخبرا عن يوم الفصل ، وهو يوم القيامة ، أنه مؤقت بأجل معدود ، لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله - عز وجل - كما قال :
( وما نؤخره إلا لأجل معدود ) [ هود : 104 ] .
( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) [النبإ : 18]
( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) قال مجاهد : زمرا .
قال ابن جرير :
يعني تأتي كل أمة مع رسولها ، كقوله :
( يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ) [ الإسراء : 31 ] .
وقال البخاري :
( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) حدثنا محمد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ما بين النفختين أربعون " .
قالوا : أربعون يوما ؟
قال : " أبيت " .
قالوا : أربعون شهرا ؟
قال : " أبيت " .
قالوا : أربعون سنة ؟
قال : " أبيت " .
قال : " ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى ، إلا عظما واحدا ، وهو عجب الذنب ، ومنه يركب الخلق يوم القيامة " .
( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) [النبإ : 21]
أي مرصدة معدة وقال الحسن وقتادة في قوله تعالى "إن جهنم كانت مرصادا" يعني أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار فإن كان معه جواز نجا وإلا احتبس
وقال سفيان الثوري:
عليها ثلات قناطر.
( لِّلطَّاغِينَ مَآبًا) [النبإ : 22]
"للطاغين" وهم المردة العصاة المخالفون للرسل "مآبا" أي مرجعا ومتقلبا ومصيرا ونزلا.
( لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) [النبإ : 23]
وقوله:
( لابثين فيها أحقابا ) أي : ماكثين فيها أحقابا ، وهي جمع " حقب " ، وهو : المدة من الزمان .
وقد اختلفوا في مقداره .
فقال ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن مهران ، عن سفيان الثوري ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد قال :
قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري :
ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل ؟
قال : نجده ثمانين سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة .
وهكذا روي عن أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعمرو بن ميمون ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والضحاك . وعن الحسن والسدي أيضا :
سبعون سنة كذلك .
؛ وعن عبد الله بن عمرو :
الحقب أربعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون .
رواهما ابن أبي حاتم .
وقال بشير بن كعب :
ذكر لي أن الحقب الواحد ثلاثمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم منها كألف سنة .
رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
ثم قال ابن أبي حاتم :
ذكر عن عمر بن علي بن أبي بكر الأسفذني :
حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله :
( لابثين فيها أحقابا ) قال :
فالحقب [ ألف ] شهر ، الشهر ثلاثون يوما ، والسنة اثنا عشر شهرا ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة .
وهذا حديث منكر جدا ، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك .
وقال البزار :
حدثنا محمد بن مرداس ، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المعلى قال :
سألت سليمان التيمي :
هل يخرج من النار أحد ؟
فقال حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
" والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا " .
قال : والحقب : بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون .
ثم قال : سليمان بن مسلم بصري مشهور .
وقال السدي :
( لابثين فيها أحقابا ) سبعمائة حقب ، كل حقب سبعون سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون .
وقد قال مقاتل بن حيان :
إن هذه الآية منسوخة بقوله : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا )
وقال خالد بن معدان :
هذه الآية وقوله :
( إلا ما شاء ربك ) [ هود : 107 ] في أهل التوحيد .
رواهما ابن جرير .
ثم قال :
ويحتمل أن يكون قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) متعلقا بقوله :
( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر .
ثم قال :
والصحيح أنها لا انقضاء لها ، كما قال قتادة والربيع بن أنس وقد قال قبل ذلك حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير ، عن سالم :
سمعت الحسن يسأل عن قوله :
( لابثين فيها أحقابا ) قال :
أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار ، ولكن ذكروا أن الحقب سبعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون .
وقال سعيد ، عن قتادة :
قال الله تعالى : ( لابثين فيها أحقابا ) وهو :
ما لا انقطاع له ، كلما مضى حقب جاء حقب بعده ، وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة .
وقال الربيع بن أنس :
( لابثين فيها أحقابا ) لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله ، ولكن الحقب الواحد ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون .
رواهما أيضا ابن جرير .